فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل، ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، يعني قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7].
وقالت طائفة من العلماء: المراد بتغيير خلق الله في هذه الآية هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات لرعتبار وللانتفاع بها، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة.
وقال الزجاج: إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل، فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس، فجعلوها آلهة يعبدونها، فقد غيروا ما خلق الله.
وما روي عن طاوس- رحمه الله- من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود، ويقول هذا من قول الله تعالى: {فليغيرن خلق الله} فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله، فقد دلت السنة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم نكاح مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان أبيض بظئره بركة أم أسامة وكانت حبشية سوداء ومن ذلك إنكاحه صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية وأسامة أسود، وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة بن كلاب، وقد سها طاوس- رحمه الله- مع علمه وجلالته عن هذا.
قال مقيده- عفا الله عنه- ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مالكًا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلم إن لم يكن لها ولي خاص مجبر.
قالوا: والسوداء دنية مطلقًا. لأن السواد شوه في الخلقة، وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء، والحق أن السوداء قد تكون شريفة، وقد تكون جميلة، وقد قال بعض الأدباء:
وسوداء الأديم تريك وجهًا ** ترى ماء النعيم جرى عليه

رآها ناظري قرنا إليها ** وشكل الشيء منجذب إليه

وقال آخر:
ولي حبشية سلبت فؤادي ** ونفسي لا تتوق إلى سواها

كان شروطها طرق ثلاث ** تسير بها النفوس إلى هواها

وقال آخر في سوداء:
أشبهك المسك وأشبهته ** قائمة في لونه قاعده

لا شك إذ لونكما واحد ** أنكما من طينة واحده

وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة.
وقوله: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام} [النساء: 119] يدل على أن تقطيع آذان الأنعام لا يجوز وهو كذلك. أما قطع أذن البحيرة والسائبة تقربًا بذلك للأصنام فهو كفر بالله إجماعًا، وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضًا أنه لا يجوز، ولذا أمرنا صلى الله عليه وسلم: «أن نستشرف العين، والأذن، ولا نضحي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء». أخرجه أحمد، وأصحاب السنن الأربع، والبزار، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه وصححه الترمذي، وأعله الدارقطني، والمقابلة المقطوعة طرف الأذن، والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن، والشرقاء مشقوقة الأذن طولًا، والخرقاء التي خرقت أذنها خرقًا مستديرًا فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء.
قال مالك: والليث المقطوعة الأذن لا تجزئ، أو جل الأذن قاله القرطبي، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن. فقال مالك، والشافعي: لا تجزئ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك، وإن كانت مشقوقة الأذن الميسم أجزأت عند الشافعي، وجماعة الفقهاء. قاله القرطبي في تفسير هذه الآية والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنا بينا في الآية المتقدمة أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره، فلا جرم نبّه الله تعالى على ما هو العمدة في دفع تلك الأماني وهو أن تلك الأماني لا تفيد إلا الغرور، والغرور هو أن يظن الإنسان بالشيء أنه نافع ولذيذ، ثم يتبين اشتماله على أعظم الآلام والمضار، وجميع أحوال الدنيا كذلك، والعاقل يجب عليه أن لا يلتفت إلى شيء منها، ومثال هذا أن الشيطان يلقي في قلب الإنسان أنه سيطول عمره وينال من الدنيا أمله ومقصوده، ويستولي على أعدائه، ويقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت له كما تيسرت لغيره، إلا أن كل ذلك غرور فإنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ووجد مطلوبه على أحسن الوجوه فإنه لابد وأن يكون عند الموت في أعظم أنواع الغم والحسرة فإن المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الألف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته أشد إيلامًا وأعظم تأثيرًا في حصول الغم والحسرة، فظهر أن هذه الآية منبهة على ما هو العمدة والقاعدة في هذا الباب.
وفي الآية وجه آخر: وهو أن الشيطان يعدهم بأنه لا قيامة ولا جزاء فاجتهدوا في استيفاء اللذات الدنيوية. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {يَعِدُهُمْ} المعنى يعدهم أباطيلَه وتُرهَّاتِهِ من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير {وَيُمَنِّيهِمْ} كذلك {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُورًا} أي خديعة.
قال ابن عرفة: الغرور ما رأيت له ظاهرًا تحبه وفيه باطن مكروه أو مجهول.
والشيطان غَرور؛ لأنه يحمل على مَحابّ النفس، ووراء ذلك ما يسوء. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَعِدُهُمْ} ما لا يكاد ينجزه، وقيل: النصر والسلامة، وقيل: الفقر والحاجة إن أنفقوا وقرأ الأعمش {يَعِدُهُمْ} بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات.
{وَيُمَنّيهِمْ} الأماني الفارغة، وقيل: طول البقاء في الدنيا ودوام النعيم فيها، وجوز أن يكون المعنى في الجملتين يفعل لهم الوعد ويفعل التمنية على طريقة: فلان يعطي ويمنع، وضمير الجمع المنصوب في {يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ} راجع إلى من باعتبار معناها كما أن ضمير الرفع المفرد في {يَتَّخِذِ} [النساء: 119] و{خُسْرٍ} [النساء: 119] راجع إليها باعتبار لفظها، وأخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع وقوع غير ذلك مما أقسم عليه اللعين أيضًا لأنهما من الأمور الباطنة وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال.
{وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُورًا} وهو (إيهام) النفع فيما فيه الضرر، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة، وإما بلسان أوليائه، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما يفعل بعيد، و{غُرُورًا} إما مفعول ثان للوعد، أو مفعول لأجله، أو نعت لمصدر محذوف أي وعدًا ذا غرور، أو غارًا، أو مصدرًا على غير لفظ المصدر لأن {يَعِدُهُمْ} في قوة يغرهم بوعده كما قال السمين، والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد، وفي «البحر» إنهما متقاربان فاكتفى بأولهما. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {يعدهم ويمنّيهم} استئناف لبيان أنّه أنجز عزمه فوعد ومنَّى وهو لا يزال يَعد ويمنّي، فلذلك جيء بالمضارع.
وإنّما لم يذكر أنّه يأمرهم فيبتّكون آذان الأنعام ويغيّرون خلق الله لظهور وقوعه لكلّ أحد. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنا ذكرنا أن الغرور عبارة عن الحالة التي تحصل للإنسان عند وجدان ما يستحسن ظاهره إلا أنه يعظم تأذيه عند انكشاف الحال فيه، والاستغراق في طيبات الدنيا والانهماك في معاصي الله سبحانه وإن كان في الحال لذيذًا إلا أن عاقبته عذاب جهنم وسخط الله والبعد عن رحمته، فكان هذا المعنى مما يقوي ما تقدم ذكره من أنه ليس إلا الغرور.
ثم قال تعالى: {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} المحيص المعدل والمفر.
قال الواحدي رحمه الله: هذه الآية تحتمل وجهين:
أحدهما: أنه لابد لهم من ورودها.
الثاني: التخليد الذي هو نصيب الكفار، وهذا غير بعيد لأن الضمير في قوله: {وَلاَ يَجِدُونَ} عائد إلى الذين تقدم ذكرهم، وهم الذين قال الشيطان: لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا.
والأظهر أن الذي يكون نصيبًا للشيطان هم الكفار. اهـ.

.قال الألوسي:

{أولئك} إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليًا باعتبار معناه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران {مأواهم} ومستقرهم جميعًا {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أي معدلًا ومهربًا، وهو اسم مكان، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى، ويقال: محيص ومحاص، وأصل معناه كما قيل: الروغان، ومنه وقعوا في حيص بيص، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه، ويقال: حاص يحوص أيضًا وحوصًا وحياصًا، و{عَنْهَا} متعلق بمحذوف وقع حالا من {مَحِيصًا}.
ولم يجوزوا تعلقه بـ {يَجِدُونَ} لأنه لا يتعدى بعن، ولا بمحيصًا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد، وإن كان مصدرًا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه، ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفًا أو جارًا ومجرورًا جوزه هنا. اهـ.

.سؤالان:

الأول: قال لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا والنصيب المفروض هو الشيء المقدر القليل وقال في موضع آخر لأحتنكن ذريته إلاّ قليلًا وقال: لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين.
وهذا استثناء القليل من الكثير فكيف وجه الجمع فالجواب أن الكفار الذين هم حزب الشيطان وإن كانوا أكثر من المسلمين في العدد لكنهم أقل من المؤمنين في الفضل والشرف وعلو الدرجة عند الله والمؤمنون وإن كانوا أقل من الكفار لكنهم اكثر منهم لأن الفضل والشرف والسؤدد والغلبة في الدنيا وعلو الدرجة في الآخرة وأنشد بعضهم في هذا المعنى قال:
وهم الأقل إذا تعد عشيرة ** والأكثرون إذا يعد السؤدد

وقيل إن إبليس لما لم ينل من آدم ما أراد ورأى الجنة والنار وعلم أن لهذه أهلًا ولهذه أهلًا قال: لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا يعني الذين هم أهل النار.
السؤال الثاني:
من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى يقول ولأضلنهم ولأغوينهم ولأمنينهم ولآمرنهم، وقال في الاعراف {ولا تجد أكثرهم شاكرين} وقال في بني إسرائل {لأحتنكن ذريته إلا قليلًا} فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن إبليس ظن أن تقع منهم هذه الأمور التي يريدها منهم فحصل له ما ظنه ويدل على ذلك قوله تعالى: {ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه}.
الوجه الثاني: قال ابن الأنباري المعنى لأجتهدن ولأحرصن في ذلك أنه كان يعلم الغيب.
الوجه الثالث: قال الماوردي من الجائز أن يكون قد علم ذلك من الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلائق لا يؤمنون. اهـ.